تطور القانون – الجزء الأول: ما قبل الأديان السماوية

رحلة مفصّلة تشرح كيف انتقل القانون من الغريزة والعرف والثأر إلى أولى المدونات المكتوبة
في سومر وبابل ومصر القديمة، ثم إلى البعد الفلسفي في اليونان، والمنهجية المدنية في روما.

المقدمة

القانون ليس مجرد نصوص جامدة، بل هو نتاج رحلة إنسانية طويلة للبحث عن النظام والعدالة.
منذ العيش في جماعات صغيرة يحكمها منطق القوة والغريزة، إلى بروز الأعراف القبلية، ثم
لحظة التدوين في حضارات وادي الرافدين، فالتطوير الفلسفي عند اليونان،
وأخيراً المنهجية المدنية الرومانية، رسمت هذه المحطات ملامح القانون قبل ظهور الأديان السماوية.

1) القانون البدائي: من الغريزة إلى الثأر

1.1 الغريزة كأول قانون

في مجتمعات ما قبل التاريخ، كان البقاء للأقوى. تشكّلت بوادر الملكية في الأدوات والطعام،
لكنها لم تكن منظّمة. كان الهدف حماية المجموعة والموارد، ضمن قواعد غير مكتوبة أملاها
واقع الطبيعة. راجع لمحة موسوعية عن المجتمعات الأولى:
Britannica – Prehistoric society.

1.2 الثأر والانتقام

مع ظهور جماعات أكبر، ظهرت العدالة البدائية بصيغة الثأر: «الدم بالدم». وفّرت رادعًا،
لكنها أدت إلى دوامات طويلة من العنف، قبل أن تُستبدل تدريجيًا بأنساق تعويضية
أو قضائية أكثر تنظيمًا.

2) الأعراف القبلية والعادات

2.1 نشأة القرى الزراعية

عقب الثورة الزراعية (~10,000 ق.م) استقر الناس وظهرت الحاجة إلى تنظيم الأرض والمياه.
نشأت قواعد عرفية لإدارة الموارد، وتوزيع العمل، وضبط التبادل.

2.2 دور شيوخ القبيلة

فُضّت النزاعات عبر مجالس الشيوخ أو زعيم القبيلة. كانت العقوبات تشمل
النفي، الحرمان من الموارد المشتركة، والغرامات العينية (محاصيل، ماشية).

2.3 القانون العرفي

انتقلت القواعد شفهيًا، وظلّت سارية حتى مع ظهور القوانين المكتوبة.
لا تزال بعض المجتمعات القبلية المعاصرة تعتمد على الأعراف في جانب معتبر من تسوية النزاعات.

3) القوانين في بلاد الرافدين (مهد التدوين)

شكّل الانتقال من العرف الشفهي إلى الكتابة المسمارية لحظة ثورية في تاريخ القانون.
دُوّنت القواعد على ألواح طينية، مما أتاح إعلانها للناس وتقليل تحكم الأفراد بها.

3.1 قوانين أور-نمو (2112 ق.م)

تُعد أقدم مدوّنة قانونية مكتشفة. تركز على الغرامات والتعويض بدلًا من القصاص الجسدي.
مثال تقريبي من نصوصها: «إذا قتل رجلٌ رجلاً آخر، يدفع ثلاثين شِقلاً من الفضة».

3.2 قوانين إشنونا (نحو 1930 ق.م)

ظهرت بمدينة إشنونا قرب بغداد. اهتمت بالاقتصاد: تحديد الأسعار وأجور العمال،
وتنظيم المعاملات، ما يعكس مجتمعًا متقدّمًا في التبادل والتسعير.

3.3 قوانين لبِت-عشتار (نحو 1900 ق.م)

غطّت قضايا الأسرة: الزواج والطلاق والميراث. كما أكدت على حماية الأرامل والأيتام،
ما يشي بحسّ اجتماعي مبكر.

3.4 شريعة حمورابي (حوالي 1750 ق.م)

أشهر مدوّنات الرافدين، تضم 282 مادة منقوشة على مسلة ديوريتية. أرست مبدأ
«العين بالعين والسن بالسن»، ونظّمت الجرائم والعقود والملكية والديون والأسرة.
النص الإنجليزي الكامل متاح عبر جامعة ييل:
Avalon Project – Code of Hammurabi.

4) القانون في مصر القديمة

استند القانون المصري إلى مفهوم الماعت (الحق، العدالة، الانسجام الكوني).
اعتُبر الفرعون القاضي الأعلى. ورغم غياب مدوّنات ضخمة، تكشف النصوص الإدارية والقضائية
عن حماية الملكية وتنظيم العقود والديون ومكافحة السرقة والقتل. لمحة موسوعية:
Britannica – Ancient Egypt.

5) القانون في الحضارة اليونانية

نقل الإغريق القانون إلى فضاء الفلسفة والمواطنة. في أثينا، مثّلت
قوانين دراكون (621 ق.م) نموذجًا للصرامة (ومنها وصف «دراكوني»)،
ثم جاءت إصلاحات صولون (594 ق.م) فخفّفت العقوبات وأرست العدالة الاجتماعية
ووسّعت حقوق المواطنين. وقدّم سقراط وأفلاطون وأرسطو تصوّرات عميقة عن «القانون الطبيعي»
ودور القانون في تحقيق الخير العام.

6) القانون في الحضارة الرومانية

6.1 الألواح الاثنا عشر (451 ق.م)

أول تدوين علني للقانون الروماني عُرض في المنتدى. عزّز مبدأ «لا جهل بالقانون»،
وأرسى أسس المساواة الإجرائية بين المواطنين.

6.2 القانون الروماني الكلاسيكي

صاغ الرومان منظومة مدنية متكاملة: العقود، الملكية، الالتزامات، المواريث.
أثّر القانون الروماني بعمق في الأنظمة الأوروبية الحديثة. راجع:
Britannica – Roman Law
وBritannica – Twelve Tables.

7) سمات القانون قبل الأديان السماوية

  • وظيفة جمعية: حماية الجماعة وتماسكها قبل التركيز على الفرد.
  • تفاوت طبقي: تمييز بين أحرار وعبيد وطبقات وسطى في العقوبات والحقوق.
  • صلة دينية/قدسية: ربط القانون بالآلهة والطقوس، مما زاد إلزاميته.
  • من العرف إلى التدوين: إعلان القواعد يقلّل المزاجية ويُعلي مبدأ المساواة أمام النص.
  • غلبة الجزاء: طغيان الردع والعقوبة على الإصلاح وإعادة الإدماج في المراحل الأولى.

الخاتمة

قبل ظهور الأديان السماوية، تطوّر القانون كأداة للبقاء والنظام ثم كمنظومة مكتوبة معلَنة.
أسّست حضارات الرافدين ومصر واليونان وروما لمفاهيم ستصوغ لاحقًا بنية القانون الديني والمدني.
في الجزء الثاني من السلسلة سنتتبع أثر الشرائع السماوية في تعميق البعد الأخلاقي والإنساني للعدالة.

مراجع موثوقة وروابط خارجية

سلسلة تطور القانون
1- المقدمة : مقدمة السلسلة