تطور القانون – الجزء الخامس: القانون الحديث والمعاصر

كيف تبلورت الدولة الحديثة والتقنين والقضاء الدستوري؟ وكيف تشكّل القانون الدولي ومنظومة حقوق الإنسان والقانون الأوروبي؟ هذا الجزء يتتبّع المسارات الكبرى للقانون منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا.

المقدمة

مع القرن التاسع عشر، تسارعت حركة التقنين وصناعة النصوص القانونية الموحّدة. تبلورت الدولة الحديثة،
وبرزت ثنائيات مدني/عام، قضائي/إداري، وطني/دولي. بعد الحربين العالميتين،
نشأت مؤسسات دولية جديدة وقيم حقوقية كونية، وتقدّم التكامل الإقليمي (خاصة في أوروبا)،
وتوسّعت وظائف الدولة من الحراسة إلى التنظيم والرفاه.

1) التقنينات الحديثة وصناعة القانون

1.1 الكود المدني الفرنسي (1804) والنموذج القاري

دشّن قانون نابليون نموذجًا واضحًا للتقنين: قواعد عامة مُعلَنة، متاحة للجمهور، تنشد اليقين والوضوح.
انتشر أثره في أوروبا وأمريكا اللاتينية وشمال أفريقيا. راجع:
Britannica – Napoleonic Code.

1.2 القانون المدني الألماني BGB (1900)

قدّم Bürgerliches Gesetzbuch منظومة مدنية دقيقة البنية، أثّرت في تقنينات عديدة لاحقة،
ورفدت المنهج التحليلي للقانون الخاص. لمحة عامة:
Britannica – Civil law (legal system).

1.3 موجة التقنين العربية (مدونات السنهوري وغيرها)

في القرن العشرين، شهدت دول عربية موجة تقنينات مدنية متأثرة بالنموذجين الفرنسي والألماني،
من أبرزها القانون المدني المصري (1948) الذي صاغه جزئيًا عبد الرزاق السنهوري،
وتبعتْه قوانين في العراق وسورية وليبيا وغيرها، مع إبقاء الأحوال الشخصية في الغالب ضمن
إطار الشريعة.

2) القانون العام والخاص: مسارات متوازية

2.1 تطور القانون العام (Common Law)

في البلدان الأنغلوسكسونية، توقّف القانون على السوابق القضائية وتطوّر القضاء،
مع تكامل تشريعي متزايد في القرنين التاسع عشر والعشرين. راجع:
Britannica – Common law.

2.2 صعود القانون الإداري ودولة الرفاه

توسّعت وظائف الدولة في الاقتصاد والصحة والتعليم والضمان الاجتماعي؛ فصعد القانون الإداري
وهيئات الضبط والوكالات التنظيمية، ومراجعة أعمال الإدارة أمام قضاء مختص (مجلس الدولة ونظائره).

2.3 الشركات، المنافسة، والعمل

تطوّر قانون الشركات والمحاسبة، وبرز قانون المنافسة/مكافحة الاحتكار
لحماية السوق (قوانين شيرمان وكلتون في الولايات المتحدة ونظيراتها الأوروبية)، كما نشأ
قانون العمل لتنظيم علاقات الشغل والحد الأدنى للأجور وساعات العمل والسلامة المهنية.

3) الدساتير والقضاء الدستوري

ترسخت الدستورية باعتبار الدستور «القانون الأسمى» وتبعتها المراجعة الدستورية
عبر محاكم وهيئات مختصة لمراقبة تطابق القوانين مع الدستور وصون الحقوق والحريات،
سواء بنموذج المحكمة الدستورية القارية أو المراجعة القضائية اللامركزية في الأنظمة الأنجلوسكسونية.

4) القانون الدولي المعاصر

4.1 الأمم المتحدة وحقوق الإنسان

بعد الحرب العالمية الثانية تأسست الأمم المتحدة (1945) ووُضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)،
وتلتْه العهود الدولية (الحقوق المدنية والسياسية؛ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
مراجع: UN – UDHR.

4.2 القضاء الدولي: ICJ وICC وECHR

  • المحكمة الدولية العدل (ICJ): تفصل في المنازعات بين الدول وتقدّم فتاوى قانونية. ICJ.
  • المحكمة الجنائية الدولية (ICC): تختص بجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. ICC.
  • الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ومحكمتها (ECHR) لضمان الحقوق على المستوى الإقليمي. ECHR.

4.3 التجارة الدولية: الجات ومنظمة التجارة العالمية

وُقّعت الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات) 1947 وتطورت إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) 1995
لتنظيم التجارة متعددة الأطراف وحل المنازعات. WTO.

5) القانون الأوروبي فوق الوطني (الاتحاد الأوروبي)

تطور القانون الأوروبي من اتفاقية روما (1957) إلى منظومة فوق وطنية تُقدّم مبدأ السمو والأثر المباشر
لقواعد الاتحاد في مجالات السوق الداخلية والمنافسة والبيئة والبيانات. راجع:
Britannica – European Union law.

6) الدولة التنظيمية والقانون المعاصر

في العقود الأخيرة، تقدّم قانون حماية البيانات (مثل GDPR في الاتحاد الأوروبي)
والتشريعات البيئية (مثل اتفاق باريس للمناخ 2015)، إلى جانب قوانين المال والأسواق،
والمزيد من تنظيم قطاعات الطاقة والاتصالات والتكنولوجيا المالية. مراجع:
EUR-Lex – GDPR,
UNFCCC – Paris Agreement.

ملاحظة: سيُستكمل في الجزء السادس الحديث عن القانون الرقمي والذكاء الاصطناعي والجرائم الإلكترونية والعدالة العابرة للحدود.

الخاتمة

منذ القرن التاسع عشر، انتقل القانون من محاولات التقنين الوطني إلى شبكات من النصوص الوطنية والدستورية والدولية
والتنظيمية. تزامن ذلك مع صعود حقوق الإنسان والتكامل الإقليمي (الأوروبي مثالًا)، وتحوّل الدولة إلى فاعل تنظيمي
واسع الاختصاص. يمهّد هذا الواقع لأسئلة جديدة يتناولها الجزء السادس حول مستقبل القانون في العصر الرقمي.

مراجع وروابط خارجية

سلسلة تطور القانون
1- الجزء الأول : مقدمة السلسلة

2- الجزء الثاني : ما قبل الأديان السماوية

3- الجزء الثالث : القانون في الأديان السماوية

4- الجزء الرابع : القانون في العصور الوسطى

5- الجزء الخامس : القانون في عصر النهضة والتنوير